فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{فإما تثقفنهم في الحرب} يعني فأما تجدن هؤلاء الذين نقضوا العهد وتظفرن بهم في الحرب {فشرد بهم من خلفهم} قال ابن عباس: معناه فنكل بهم من ورائهم.
وقال سعيد بن جبير: أنذر بهم من خلفهم وأصل التشريد في اللغة التفريق مع اضطراب ومعنى الآية إنك إذا ظفرت بهؤلاء الكفار الذين نقضوا العهد فافعل بهم فعلًا من القتل والتنكيل تفرق به جمع كل ناقض للعهد حتى يخافك من وراءهم من أهل مكة واليمن {لعلهم يذكرون} يعني لعل ذلك النكار يمنعهم من نقض العهد. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلّهم يذكرون} أي فإن تظفر بهم في الحرب وتتمكن منهم {فشرّد بهم من خلفهم}، قال ابن عباس فنكّل بهم من خلفهم، وقال ابن جبير: أنذر من خلفهم عن قتل من ظفر به وتنكيله فكان المعنى فإن تظفر بهم فاقتلهم قتلًا ذريعًا حتى يفرّ عنك من خلفهم ويتفرّق ولما كان التّشريد وهو التّطريد والإبعاد ناشئًا عن قتل من ظفر به في الحرب من المعاهدين الناقضين جعل جوابًا للشرط إذ هو يتسبب عن الجواب، وقالت فرقة فسمع بهم وحكاه الزهراوي عن أبي عبيدة، وقال الزمخشري: من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتبارًا بهم واتعاظًا بحالهم، وقال الكرماني: قيل التّشريد التخويف الذي لا يبقى معه القرار أي لا ترضَ منهم إلاّ الإيمان أو السيف.
وقرأ الأعمش بخلاف عنه فشرّذ بالذال وكذا في مصحف عبد الله قالوا ولم تحفظ هذه المادة في لغة العرب، فقيل: الذال بدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخزاذيل، وقال الزمخشري: فشرّذ بالذال المعجمة بمعنى ففرّق وكأنه مقلوب شذر من قولهم ذهبوا شذر ومنه الشّذَر الملتقط من المعدن لتفرّقه انتهى.
وقال الشاعر:
غرائر في كن وصون ونعمة ** تحلين ياقوتًا وشذرًا مفقرًا

وقال قطرب: بالذال المعجمة التنكيل وبالمهملة التفريق، وقرأ أبو حيوة والأعمش بخلاف عنه {من خلفهم} جارًا ومجرورًا ومفعول {فشرد} محذوف أي ناسًا {من خلفهم} والضمير في {لعلّهم} يظهر أنه عائد على {من خلفهم} وهم المشرّدون أي لعلّهم يتعظون بما جرى لنا قضي العهد أو يتذكرون بوعدك إياهم وقيل: الضمير عائد إلى المثقوفين وفيه بعد لأن من قُتل لا يتذكر. اهـ.

.قال أبو السعود:

قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ}
شروعٌ في بيان أحكامِهم بعد تفصيلِ أحوالِهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فإذا كان حالُهم كما ذكر فإمّا تصادِفَنَّهم وتظفَرَنَّ بهم {فِى الحرب} أي في تضاعيفهم {فَشَرّدْ بِهِم} أي ففرِّقْ عن مناصبتك تفريقًا عنيفًا موجبًا للاضطرار والاضطراب ونكِّلْ عنها بأن تفعل بهم من النِكاية والتعذيبِ ما يوجب أن تُنَكّل {مّنْ خَلْفِهِمْ} أي مَنْ وراءَهم من الكفرة، وفيه إيماءٌ إلى أنهم بصدد الحرب قريبٌ من هؤلاء، وقرئ شرِّذْ بالذال المعجمةِ، ولعله مقلوبُ شذِّر بمعنى فرق، وقرئ مِنْ خلفِهم أي افعلِ التشريدَ من ورائهم، والمعنى واحدٌ لأن إيقاعَ التشريد في الوراء لا يتحقّقُ إلا بتشريد مَنْ وراءَهم {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون بما شاهدوا مما نزل بالناقضِين فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ}
شروع في بيان أحكامهم بعد تفصيل أحوالهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والثقف يطلق على المصادفة وعلى الظفر، والمراد به هنا المترتب على المصادفة والملاقاة، أي إذا كان حالهم كما ذكر فأما تصادفنهم وتظفرن بهم في {الْحَرْب} أي في تضاعيفها {فَشَرّدْ بِهِم} أَي فرق بِهِم {مّنْ خَلْفِهِمْ} أي من وراءهم من الكفرة، يعني افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك فعلا من القتل والتنكيل العظيم يفرق عنك ويخافك بسببه من خلفهم ويعتبر به من سمعه من أهل مكة وغيرهم، وإلى هذا يرجع ما قيل: من أن المعنى نكل به ليتعظ من سواهم، وقيل: إن معنى شرد بهم سمع بهم في لغة قريش قال الشاعر:
أطوف بالاباطح كل يوم ** مخافة أن يشرد بي حكيم

وقرأ ابن مسعود والأعمش {فشرذ} بالذال المعجمة وهو بمعنى شرد بالمهملة، وعن ابن جنى أنه لم يمر بنا في اللغة تركيب شرذ والأوجه أن تكون الذال بدلًا من الدال، والجامع بينهما أنهما مجهوران ومتقاربان، وقيل: إنه قلب من شذر، ومنه شذر مذر للمتفرق، وذهب بعض أهل اللغة إلى أنها موجودة ومعناها التنكيل ومعنى المهمل التفريق كما قاله قطرب لكنها نادرة، وقرأ أبو حيون {بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ} بمن الجارة، والفعل عليها منزل منزلة اللازم كما في قوله:
يجرح في عراقيبها نصلي

فالمعنى افعل التشريد من ورائهم، وهو في معنى جعل الوراء ظرفًا للتشريد لتقارب معنى مِنْ وفي تقول: اضرب زيدًا من وراء عمرو وورائه أي في وراءه، وذلك يدل على تشريد من في تلك الجهة على سبيل الكناية فإن إيقاع التشريد في الوراء لا يتحقق إلا بتشريد من وراءهم فلا فرق بين القراءتين الفتح والكسر إلا في المبالغة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعل المشردين يتعظون بما يعلمونه مما نزل بالناقضين فيرتدعون عن النقض قيل: أو عن الكفر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}.
وجاء الشرط بحرف (إنْ) مزيدة بعدها (ما) لإفادة تأكيد وقوع الشرط وبذلك تنسلخ (إن) عن الإشعار بعدم الجرم بوقوع الشرط وزيد التأكيد باجتلاب نون التوكيد.
وفي شرح الرضي على الحاجبية، عن بعض النحاة: لا يجيء (إمّا) إلاّ بنون التأكيد بعده كقوله تعالى: {فإما ترين} [مريم: 26].
وقال ابن عطية في قوله: {فإما تثقفنهم} دخلت النون مع إما: إمَّا للتأكيد أو للفرق بينها وبين إمّا التي هي حرف انفصال في قولك: جاءني إمّا زيد وإمّا عَمرو.
وقلت: دخول نون التوكيد بعد (إنْ) المؤكَّدةِ بما، غالب، وليس بمطّرد، فقد قال الأعشى:
إمَّا تريْنَا حُفاة لا نعال لنا ** إنَّا كذلككِ ما تَحفى وننتعل

فلم يدخل على الفعل نونَ التوكيد.
والثقف: الظفَر بالمطلوب، أي: فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب، أي انتصرت عليهم.
والتشريدُ: التطريد والتفريق، أي: فبعِّد بهم مَن خلفهم، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير.
وجعلت ذوات المتحدّث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبّس بالهزيمة والنكال، فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمرادُ أحوال الذوات مثل {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3].
وقد علم أنّ متعلّق تشريد {من خَلفهم} هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد.
والخَلْف هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتِّباع، ونظيره (الوراء).
في قول ضمّام بن ثعلبة: وأنا رسول من ورائي.
وقال وفد الأشعريين للنبيء صلى الله عليه وسلم فمُرنا بأمر نأخذ به ونُخبر به مَن وراءنا، والمعنى: فاجعلهم مثَلًا وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقّبون ماذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم، ولأجل هذا الأمر نكل النبي صلى الله عليه وسلم بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم بأن تقتل المقاتلة وتُسْبَى الذرية، فقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل.
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بالإغلاظ على العدوّ لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه، فإنّهم كانوا يستضعفون المسلمين، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم، لأنّهم استحقّوها.
وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنّه يصدّ أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شرَّ الناكثين الخائنين.
فلا تخالف هذه الشدّة كونَ الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين، لأنّ المراد أنّه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدّة على قليل منهم كقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179].
وضمير الغيبة في {لعلهم يذكرون} راجع إلى {من} الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس.
والتذكّر تذكّر حالة المثقفين في الحرب التي انجرّت لهم من نقض العهد، أي لعلّ من خلفهم يتذكّرون ما حَلَّ بناقضي العهد من النكال، فلا يقدموا على نقض العهد، فآل معنى التذكّر إلى لازمه وهو الاتّعاظ والاعتبار، وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)} أي إن وجدتهم في أي حرب فشرد بهم من خلفهم.
ولنا أن نلحظ أن كلمة إما هي إن الشرطية المدغمة في ما إذا ما حذفنا منها ما، نجد أنها تصبح إن، كأنه يقول: إنْ مَا، وأدغمت نون إن في ما مثلها مثل أن نقول: إن جاءك زيد فأكرمه؛ هذه جملة شرطية فيها شرط وجواب وأداة شرط، ولكنه إذا تم مرة واحدة يكون قد انتهى. ولكن ما مع إن الشرطية تدلنا على أنه كلما حدث ذلك فإننا نفعل بهم ما أمر الله تعالى به، كما نقول: كلما جاءك زيد فأكرمه؛ لأن إما هذه تتضمن ما يفيد الاستمرارية، مثل كلما فكلما جاءك تكرمه ولو جاء مائة مرة، ولو لم تجيء ما لكان يكفي أن تصنعها مرة واحدة.
وقوله تعالى: {تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب}، ثقف بمعنى وجد، أي كلما وجدتهم في الحرب: فشرد بهم من خلفهم، أي اجعلهم أداة لتشريد من خلفهم. وعليك أن تؤدبهم أدبًا يجعل الذين وراءهم يخافون منكم، ويبتعدون عنكم، وكلما رأوكم أصابهم الخوف والهلع، وكما يقول المثل العامي: اضرب الربوط يخاف السايب. أي أن المطلوب أن نجاهدهم بقوة وبدون شفقة، حتى لا يفكر في مساندتهم من جاءوا خلفهم لينصروهم أو يؤازروهم بالدخول معهم في القتال، ولا تحدثهم أنفسهم في أن يستمروا في المعركة، فشرد بهم، والتشريد هو التشتيت والتفريق والإبعاد ولكن بقسوة. فحيثما يريدوا أن يذهبوا؛ امنعهم وشتتهم على غير مرادهم. وقول الحق سبحانه وتعالى: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لكي تكون هذه التجربة درسًا لهم؛ كيلا يفكروا مرةً أخرى في حربٍ معك؛ لأنهم سوف يتذكرون ما حدث لهم فيبتعدون عن مواجهتك. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}.
العامَّةُ على الدال المهملة في فَشرِّدْ.
وأصل التَّشْرِيدِ، التَّطريدُ والتفريقُ والتبديدُ.
وقيل: التفريق مع الاضطراب، والمعنى: فرق بهم جمع كل ناقض، أي: افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وجَاءُوا لحربك فعلًا من الحرب والتمكين، يفرقُ منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن، {لَعَلَّهُم يذَّكرُون} يتذكرون ويعتبرون فيا ينقضون العهد.
وقرأ الأعمش بخلاف عنه: {فَشَرِّذْ} بالذال المعجمة.
وقال أبو حيان رحمه الله تعالى: وكذا هي في مصحف عبد الله.
قال شهاب الدين: وقد تقدَّم أنَّ النَّقْطَ والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ، أحدثه يحيى بن يعمر، فكيف يُوجد ذلك في مصحف ابن مسعود؟.
قيل: وهذه المادة- أعني: الشين، والرَّاء، والذال المعجمة- مهملة في لغة العرب وفي هذه القراءةِ أوجه، أاحدها: أنَّ الذَّال بدلُ من مجاورتها، كقولهم: خراديل وخراذيل.
الثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ شذر، من قولهم: تَفرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، ومنه: الشَّذْر المُلتقط من المعدن؛ لتفرُّقِهِ؛ قال: [الطويل]
غَرَائِرُ فِي كِنٍّ وَصوْنٍ ونَعْمَةٍ ** يُحَلَّيْنَ يَاقُوتًا وشَذْرًا مُفَقَّرا

الثالث: أنه من ذر في مقاله، إذا أكثر فيه، قاله أبو البقاءِ، ومعناه غير لائق هنا.
وقال قطرب: شرّذ بالمعجمة، التنكيل، وبالمهملة: التَّفريق.
وهذا يُقَوِّي قول من قال إن هذا المادَّة ثابتةٌ في لغة العربِ.
قوله: {مَنْ خَلْفَهُمْ} مفعول: {شرِّد}.
وقرأ الأعمشُ بخلاف عنه وأبو حيوة {مِنْ خلفهم} جارًا ومجرورًا، والمفعولُ على هذه القراءة محذوفٌ، أي: فشرِّدُ أمثالهم من الأعداء، وأناسًا يعملون بعملهم، والضميران في {لَعَلَّهُم يذكَّرُون} الظَّاهِرُ عودهما على {مَنْ خَلْفَهُمْ}، أي: إذا راوا ما حلَّ بالمناقضين تذكَّرُوا.
وقيل: يعودان على المثقفين، وليس له معنى طائل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}
يريد إنْ صَادَفْتَ واحدًا من هؤلاء الذين دأبُهم نقضُ العهد فاجعلهم عِبْرَةً لمن يأتي بعدهم لئلا يسلكوا طريقَهم فيستوجبوا عُقُوبَتَهُم.
كذلك مَنْ فَسَخَ عقده مع الله بقلبه برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات، وتزوله إلى السكون مع العادات يجعله الله نكالًا لمن بعده، بحرمانه ما كان خوَّلَه، وتنغيصه عليه ما من حظوظه أَمَّلَه، فيفوته حق الله، ولا يكون له امتناع عما آثره على حق الله:
تبدَّلت وتبدَّلنا واحسرتا لمن ** ابتغى عِوضًا لليلى فلم يجد

. اهـ.